سماحة الشيخ محسن المعلم
الإمام الخوئي
باعث علم الرجال ومحكم مبانيه
مجاز:
الحديث عن الحواضر العلمية ومعدن العلماء ومواطن إبداعهم، حديث يجمع بين المتعة والعناء، المتعة حيث نشر التراث وإذاعة أمجاده والتغني بماضيه العريق وتأريخه المشرق ووصله بالحاضر مقروناً بما أخذ وما قدم، والعناء حيث سبر المراحل المتقادمة والقريبة وما واكبها من أحداث وخطوب كادت تميت الحياة العلمية وتذهب بكل نتاج وإنجاز، لولا ما أمدّها الله به من قوة ومنعة وعزة ورفعة، ومن تمسك بكتاب الله فإنه لا ينقطع، وحبله لا يقطع.
والنجف الأشرف نبع الحوزات وأمّها، وقلعة العلم ومعقله، وقد أخذت بأسباب الخلود بأوثق العرى وأقوى العلائق، كيف لا وهي تمتّ إلى باب مدينة علم رسول الله بكل سبيل، وتلج إليه من جَدَدِ الطريق ولاحِبِ المنهج.
فأنّى لي -وقدراتي المحدودة- باقتحام هذه القلعة وولوج الحصون المنيعة.
ولكني أستمطر من فيض الرحمن رحمة ومن قدرته قوة تعينني على حسن المولج وسلامة المخرج، وسأحاول –وبالله التوفيق ومنه العون- عرض الموضوع ضمن مقدمتين وفصلين:
المقدمة الأولى:
أ) علوم الحوزة العلمية.
ب) تضلع الإمام الخوئي فيها.
علوم الحوزة العلمية:
أ) تحفل الحوزة العلمية بحقول متنوعة من العلوم والمعارف تُقَوِّمُ اللسانَ والقلم، وتعصم مراعاتها الفكر، وتستوعب بما شملت حياة الإنسان بعد أن حددت مبدأ الحياة ومعادها، إلى جنبات جمة في مختلف الفنون والشؤون، ولكن الأهم من ذلكم الجم علوم أربعة مترابطة فيما بينها ويعود إليها سواها مما يعد مقدمة ومبادئ وآلة لها.
والعلوم الأربعة هي: الفقه، الأصول، الرجال، الفلسفة، وتحكي هذه في واقعها (المعقول والمنقول) وبما لهما من السعة والعمق.
وفي الحقيقة أن الأصول آلة للفقه يستخبر به أنماط الاستدلال والاستنباط، إلا أنه ولعظيم مسائله وجليل بحوثه عاد رأساً مستقلاً وأصلاً مميزاً.
والرجال سلسلة الربط بين الفقيه والمعصوم وحديثه، وهو بهذا يتهيأ لأن يكون أصلاً تدور عليه وفيه الأبحاث والنظريات بدلاً من أن يكون مقدمة وتبعاً.
والفلسفة (الحكمة والكلام) وبما هي عليه في واقعها من القيمة الذاتية لهي دخيلة في جملة من شُعَبِ الأصول وأطراف الفقه.
وهكذا يمكن لهذه العلوم الاستقلال من جهة والترابط بينها من جهة ثانية، بل وصلتها بعلوم أخرى كالمنطق وعلم العربية من جهة ثالثة.
تضلع الإمام الخوئي فيها:
وقد اجتمع له -أعلا الله برهانه- من المواهب الإلهية والألطاف الربانية ما لم ينله إلا أمثاله -وهم ندرة كريمة- ممن أوتوا الحظوظ العالية.
فالنجف الأشرف (جامعة الشيعة الدينية) معدن العلم ومصنعه ومكمنه ومنجمه، والأساتذة الأفذاذ ذوو الاختصاص المميز: كشيخ الشريعة الأصفهاني والشيخ مهدي المازندراني وملك الأصول الشيخ آغا ضياء الدين العراقي والفقيه الحكيم الأصفهاني وشيخ التحقيق الأجل النائيني -رضوان الله عليهم-.
وخير القلوب وأوعاها وأصفى الضمائر وأنقاها مع عشقٍ للكمال وبذل الطاقة وغاية الجهد طيلة عمر مديد طالباً ومدرساً ومؤلفاً، وقبل ذلك ومعه توفيق من الله الحكيم الكريم، كل هذا ما حبي به وحظي فيه بطل العلم الخوئي العظيم.
فنظرة إلى الخوئي الفقيه تمتد فيها رؤيتك إلى بحر زاخر بالجواهر وتمتع فيها بحدائق ناضرة في مسالك من نهج الفقاهة وإرشاد الأذهان بخير دليل ومعتمد ومستمسك ومستند.
والفقه مجلى الملكات العلمية ومظهر التضلع فيها فدعامته كتاب الله الأعظم وسنده السنة النبوية الشريفة وقوامها الدراية والرجال وركنه الأصول وقاعدته العربية وعلومها.
وفقيهنا الخوئي أخذ من ذلك كله بالسهم الأنفذ، وأود هنا تسجيل نقطتين:
الأولى: أنه قدس الله تربته أورد رواية في التنقيح -على ما في البال- عن جميل بن دراج واستظهر أن ذيلها ليس من كلام الإمام u وإنما هو رأي جميل وعقب ذلك بأننا لا نتعبد باجتهاد برأي الراوي الجليل، وأن الفقيه يعتبر نفسه كمن سمع الإمام من فلق فيه ويستنبط الحكم على ضوء ذلك.
وأحسب أن الانصهار والتعمق بهذا النحو يعني إدراكاً فقهيًّا مميزاً واهتماماً رجاليًّا وروائيًّا مهمًّا.
الثانية: حدثني أحد أساتذتي الأجلاء أن أستاذه المحقق الأجل الشيخ محمد علي التوحيدي حين ورد قم المقدسة من النجف الأشرف فزاره فقهاؤها الكبار وأفاض المجلس بالحديث عن علوم آل محمد وكل يدلي بدلوه وينفض مجلسهم، فكان مما يعقبه الشيخ التوحيدي: إنه يتبين من ذلك أعلمية سيدنا الأستاذ الخوئي عليهم فإن في الرواية نكاتٍ لم يوردوها.
والخوئي الأصولي
فهو أستاذ الأصول الأول الذي اجتمع لديه ما امتاز به رواده الأماثل فهذّب ونقّح، وأضاف وأصلح، فعاد رب مدرسة أصولية عامرة بالقوانين المحكمة، نيرة بالمصابيح مما كَتَبَ وأَنْتَجَ وخَرَّجَ من ذوي الملكات العالية والأفكار الراقية.
والخوئي الرجالي
فهو الرجل الوارث الباعث الذي بذل عمراً شريفاً ودهراً ثميناً في تنقيح مبانيه وغربلة رجاله فأحيا به العلم ورجاله.
والخوئي الفيلسوف
فقد أفاض في مباحث جليلة ومسائل شائكة من مطالب (الحكمة والكلام) وفي وفرة مما باحث ودوَّن، تقف على ذلك في بيانه الرائع وموسوعاته الفقهية والأصولية، وقد ناقش فيها الأساطين ورجال الصناعة.
إلا أن المجالات الأخرى كانت محل عنايته أكثر وكان بها أشهر.
ويبدو لي أن هذا الجانب لم يلق من التوجه والإلفات إليه من الباحثين الأجلاء ما يناسبه ويرقى لمقام سيدنا الحكيم المتأله، وكثيراً ما ترمق شخصيته وتخص بجانب فيتراءى من ذلك أنه لم يغرق نزعاً في غيره، والأشباه والنظائر وفيرة كشيخه ملك الأصول الشيخ ضياء الدين وشيخ مشايخه الآخوند العظيم حيث طغت على شخصيتهما النزعة الأصولية.
وآمل أن ينبري لإشباع هذه الجنبة من حياة سيدنا الفكرية مؤهل يسبر نظرياته ويحلل أفكاره ويقارن فيبرزها بما يليق بها، والله الهادي وهو الموفق.
وبعد فهذه لمحة من مظاهر تمثلت في شخصية نادرة جدًّا وقد منحها باريها التوفيق الذي رافقها فأخصبت وأنتجت خير ثمر ونتاج، فجاءت مسفوراته وموسوعاته تحيّر الألباب وتبهر العقول لجميل البسط وسعة الإحاطة على غاية من النظم والترتيب والتهذيب، كما كان أعلى الله كلمته في بحثه وكلمه كذلك -كتاباً مبوباً منظماً- على حد تعبير بعض خريجي مدرسته.
وجاءت قوافل كوكبة إثر كوكبة من كتبه الناطقة من طلابه من فقهاء وأصوليين ورجاليين وفلاسفة، صدّرهم من حوزته في النجف الأشرف إلى حوزة قم المقدسة، فأضحوا محور الحركة العلمية ولبها وجوهر الأبحاث العالية ولباسها، فإذا بالإشراقة المباركة الفياضة بأنفاس علي باب مدينة رسول الله تمد وتزود عش آل محمد حيث المثوى الطاهر لبضعة الإمامة، ويشاء الله أن يتم ذلك على يد زعيم الحوزات العلمية السيد الخوئي عبر كتبه وتقريراته وأعيان حوزته المباركة، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}([1])، {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([2]).
المقدمة الثانية: علم الرجال ودوره وثراء المكتبة الشيعية بالتأليف فيه:
قلت في صدر المقدمة الأولى: إن علم الرجال سلسلة الربط بين الفقيه والمعصوم وحديثه، وهو بهذا يتهيأ لأن يكون أصلاً تدور عليه وفيه الأبحاث والنظريات بدلاً من أن يكون مقدمة وتبعاً.
والمتتبع يقف على هذه الحقيقة حينما يسير ويسبر فيما أنتجته الأفكار وعملت فيه الأقلام منذ عهد قديم وإلى عصرنا الحاضر معالجةً شتى أنحاء هذا العلم، وسأورد مقتصراً على ما جاء في عنوان هذه المقدمة.
1- علم الرجال ودوره:
أ) أحسب أن كثيراً من العلوم يمر بمرحلة أولية تتمثل فيها أصالته وثقله وهيمنته بفضل تأسيس النابهين له والنابغين فيه وببركة ما يحملون من مؤهلات علمية وإيمانية تأسر جيلهم وتبهر من يأخذ عنهم فيتولد من هذه الأنحاء وما شاكلها قناعة ثابتة ترقى إلى حقيقة متأصلة لا تدع مجالاً لإثارة شبهة أو حدوث شك.
ومن ذلك الظلال التي أحدثها ثقل العلماء الأقدمين والرجال البارزين وتجلى ذلك في موضوع بحثنا وغيره -كما جاء في عصر شيخ الطائفة الطوسي- واقتفاء طلابه أثره وحذوهم حذوه حتى انبعث الشيخ الجليل ابن إدريس الحلي.
وإننا نجد تلكم البصمات والآثار جلية حتى مع اختلاف المباني العلمية بين الأصولية والأخبارية كما سنلاحظ ذلك عند إيراد بعض المعايير.
ب) وببركة فتح باب الاجتهاد -وهو باب الخير والعطاء- ذاب الجمود وانكسر الطوق وتنامت الحركة الفكرية وترعرعت وأبدعت، فإذا الأجيال اللاحقة تعود إلى الموروثات السابقة فتنظر وتناقش وتقبل وترفض حتى المسلمات عند أولئك والمشهور بينهم وما كان يُتلقى عنهم بالإذعان والقبول.
وبعد...
فإن جلالة أقدار المحمدين الثلاثة -رضوان الله عليهم- حدت ببعضهم إلى القول:
1- بقطعية صدور روايات الكتب الأربعة، 2- وببعض آخر بقطعية الاعتبار وإن لم تكن قطعية الصدور([3])، 3- التوثيق الإجمالي الصادر من مؤلفيها بحق رواتها، 4- الاعتماد والركون إلى الشهرة الروائية، 5- التعويل على مقاييس معينة تتسع لأجلها دائرة قبول الروايات مما يعني بالتالي عدم الحاجة إلى علم الرجال.
ومن الخير عرض نماذج من الأقوال في بعض ما أشرت إليه وربطه بعلم الرجال ودوره.
الأنموذج الأول: يقول الشيخ سليمان آل عبد الجبار([4]):
الأحاديث قطعية الصدور:
كلُّ الأحاديثِ التي في الكافي |
|
صادرةٌ قطعاً عن الأشرافِ |
كذلك البحارُ والوسائلُ |
|
وكلُّها صحيحةٌ يا سائلُ |
وقال أيضاَ: |
||
وعنده([5]) الترجيحُ بالعداله |
|
في زمنِ الغيبةِ لا معنى له |
فإن أخبارَ الأصولِ المورَدَه |
|
صحيحةٌ ثابتةٌ مُعْتَمَدَه |
نعم يصحُّ ذاكَ قبلَ التنقيه |
|
لو بَقِيَتْ أخبارُنا كما هيه |
لكنَّ أصحابِ الأصولِ سابقا |
|
قد صحَّحُوا وأوضحوا للمُنْتَقَى([6]) |
ويذكر سيدنا الخوئي _ حجة الذاهبين إلى ذلك بقوله:
((وأحسن ما قيل في ذلك هو: أن اهتمام أصحاب الأئمة G وأرباب الأصول بأمر الحديث إلى زمن المحمدين الثلاثة -قدس الله أسرارهم- يدلنا على أن الروايات التي أثبتوها في كتبهم قد صدرت عن المعصومين G فإن الاهتمام المزبور يوجب -في العادة- العلم بصحة ما أودعوه في كتبهم، وصدوره من المعصومين G))([7]).
ثم ناقشها مناقشة موضوعية مستوفاة جاءت في 14 صفحة ختمها بقوله:
((وعلى الجملة: إن دعوى القطع بعدم صدور بعض روايات الكافي عن المعصوم u ولو إجمالاً قريبة جدًّا، ومع ذلك كيف يصح دعوى العلم بصدور جميع روايته عن المعصوم u؟ بل ستعرف -بعد ذلك- أن روايات الكتب الأربعة ليست كلها بصحيحة، فضلاً عن كونها قطعية الصدور))([8]).
الأنموذج الثاني:
رأي الفقيه الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني: ((وأما الترجيحات والمضعفات الرجالية المتداولة فلا نرى لها وجهاً في جل الموارد، ولا منشأً صحيحاً ولذا ترى غالباً أن علماء الرجال لا يسعهم أن يسيروا في فقههم على ما أسسوه في كتبهم الرجالية فيتشبّثون بالشهوان([9]) الفتوائية والترجيحات التي لا تفيد الاطمئنان، ويتّكلون على الإجماعات المنقولة وكل ذلك غير خفي على المتأمل وجهه.
وقد حضرنا بحوث الأساتذة في عصرنا بعلم الرجال فما وجدناها تورث للنفس أقل مراتب الظن، وإنا لو سايرنا ما كتبه علماء الرجال على مصطلحاتهم ومصطلحات علماء الدراية في الحديث لأوجب التشويش للفقيه في استنباط الأحكام الشرعية، وانسد باب الوثوق بالصدور والجبر والطرح، وما تيسر لفقيه تطبيق قواعده على الأحكام في كثير من المقامات، ولذا ترى أن علماء (الشيعة) ورجال الفن والتحقيق من طبقة القدماء والطبقة الوسطى والمتأخرة أعرضوا عن تفنن علم الرجال ودراية الحديث ولم يعيروا لذلك سمعاً وإن كان لا تنكر فائدة علماء الرجال في معرفة الرواة ومكانتهم وضبطهم للحديث، فشكر الله تعالى مساعي الجميع فقد أدى كل جهده في أحكام الشريعة على ما يراه بينه وبين الله تعالى مؤمناً ومفرغاً لذمته))([10]).
وقد تعرض لمناقشة هذا الرأي ونظائره الرجاليون ذوو الاختصاص.
قال المحقق الجليل أحد أئمة هذا الفن؛ الشيخ المامقاني:
((سابعها أن سيرة العلماء قديماً وحديثاً على تدوين كتب الرجال وتنقيحها وتحصيلها بالشراء والاستكتاب ومطالعتها والرجوع إليها في معرفة أحوال الرواة والعمل بها، وقد كان للسابقين كالصدوقين والشيخين والفاضلين وغيرهم فيه مهارة وكانوا يعدونه في أصولهم من شرائط الاجتهاد، فهل ترى من نفسك كون ذلك كله منهم لغواً وعبثاً، حاشا وكلا بل عملهم هذا يكشف عن رضا المعصوم، ويؤكد ذلك سيرة الرواة والمحدثين حيث أنها من زمن النبي 2 والأئمة G قد استقرت إلى زمان تأليف الكتب الأربعة بل إلى تأليف الثلاثة المتأخرة الوافي والوسائل والبحار على ذكر جميع رجال الأسانيد، حتى أن أحداً منهم لو أسقطهم أو بعضهم في مقام أشار إليهم في مقام آخر، كما في الكتب الأربعة، وصرحوا بأن ذلك منهم للاحتراز من لزوم الإرسال والقطع والرفع ونحوهما مما ينافي اعتبار الخبر، ولولا أن غرضهم إطلاع المجتهدين على رجال السند ومراجعة أحوالهم حسب المقدور وتحصيل الوثوق بآحادهم لما تكلفوا ذكر آحاد السند تماماً ولو كان بناؤهم على اعتبار الأخبار من غير ملاحظة أحوال الرواة لمجرد الأخذ من الأصول الأربعمائة أو لغيره من قرائن الاعتبار لكان تطويل الكتب بذكر جميع الأسانيد بل تصديهم للتعرض لأحوال الرجال من زمن الشيخ الطوسي بل من قبله وتصنيفهم في ذلك إلى الآن لغواً وعبثاً حاشاهم عن ذلك))([11]).
وفي جملة ما قاله سيدنا الخوئي في هذا المجال:
إن علم الرجال كان من العلوم التي اهتم بشأنه علماؤنا الأقدمون، وفقهاؤنا السابقون، ولكن قد أهمل أمره في الأعصار المتأخرة حتى كأنه لا يتوقف عليه الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية([12]).
وهذه كلمة جامعة وقد كرر نحو هذا القول في مواطن عديدة من مقدمة كتابه الكبير.
أقول:
أولاً: أن رأي شيخنا الخاقاني _ يشاركه فيه جملة من الأعيان فقد تكرر من الفقيه الكبير صاحب الحدائق ذلك كثيراً ونعى على الأصوليين نظرتهم هذه واهتمامهم بالدراية وبحوثها.
وأحسب أن الإعراض عن ذلك كله وإغفاله وعدم العناية به راجع إلى بعض ما ذكرت من القناعة والوثوق بتدوين الأقدمين وتعاملهم مع الرواية والدراية.
وكذلك ما ذكره من أن مسايرة علماء الرجال والدراية في مصطلحاتهم تبعث على التشويش دعوى كبيرة ومهمة تحتاج إلى إيراد مصاديق ذلك أولاً، والنظر ثانياً إلى موقف من يرى الأخذ بتلكم المصطلحات ويعتني بشأنها فهل يبقى حائراً، أم له مخرج حسن أم يتراجع في مثل هذه المواطن المحرجة فقط.
وثانياً: إن واقع علم الرجال مقدميٌّ بالنسبة إلى الحديث فينبغي أن يبدأ به الحديث، فما ثبت أنه طريق مؤدي ونهج سليم موصل للأخذ عن المعصوم u فيُسلك، وأما ما ينقطع بالسائر فيه فيُترك، وتنتقل المسألة إلى معالجة الموقف حيث لا رواية معتبرة معتمدة فيه.
والظاهر أن المسألة -ومع هذا البحث والتركيز- لم تصل إلى ما يوجب القول بالانسداد حتى نضطر إلى التسامح والإغضاء عما نبه عليه المحققون من ضرورة إعمال قواعد علم الرجال ولزوم دراية علم الدراية.
وقد وضع سيدنا العظيم -رضوان الله عليه- النقاط على الحروف وأثار الكلام حول ما يُرى أنه من المسلمات أو المشهورات أو مما لا يحتاج إلى مناقشة، وفتح بذلك آفاقاً بعيدة في هذا العلم الشريف.
2) ثراء المكتبة الشيعية بالتأليف فيه:
قال شيخ الباحثين الرجاليين الشيخ آغا بزرگ الطهراني:
((اشتد اهتمام علماء الشيعة من العصر الأول إلى اليوم في تأليف كتب خاصة في هذا العلم وتدوين أسماء لرجال الأحاديث مع إيراد بعض أوصافهم وذكر بعض كتبهم وآثارهم المعبَّر عن بعضها بالكتب وعن بعضها بالأصول كما فصلناه في ج2/125 وكان بدءُ ذلك حسب اطلاعنا في النصف الثاني من القرن الأول فإن عبيدالله ابن أبي رافع كان كاتب أمير المؤمنين u وقد دوَّن أسماء الصحابة الذين شايعوا عليًّا u وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان))([13]).
ثم أفاض القول في تطور التأليف في ذلك حسب القرون وذكر الأصول الرجالية وما فُقد منها وما وجد إلى أن قال _: وقد ترجمنا من اطلعنا على تأليف له في الرجال سواء كان شاملاً للقدماء والمتأخرين أو خاصًّا بأحدهما عموماً أو خصوص أشخاص معينة منهم مبسوطاً كان تأليفه أم مختصراً، كان له عنوان خاص أم لا فجاء وافياً ببعض المراد وسميناه (مصفى المقال في تراجم مصنفي الرجال)([14]).
ثم أورد أعداداً وافرةً جدًّا تربو على المئات فأسبرها من ص82 إلى ص161.
وقال جعفر الخليلي متحدثاً عن مكتبة الحاج ملا علي الخليلي L: ((وقد كانت هذه المكتبة تمتاز على المكتبات الأخرى في عصرها بما كانت تضم من كتب الرجال التي ورد ذكرها في بطون التواريخ والتي اعتبرت مفقودة كانت لديه منها نسخة، إذا لم تكن النسخة الأصلية نفسها، ولذلك اعتبرت مؤلفاته في الرجال من أدق وأصح ما أُلِّف في هذا الباب، وقد روى بعض أفراد أسرة الخليلي أن الكتب التي تخص علم الرجال أو تراجم أحوالهم وسيرتهم وعلى الأخص رجال الحديث والرواية كانت وحدها تتجاوز ألف كتاب!!!))([15]).
وقد لا تكون هذه الكتب شيعية كلها إلا أن كمًّا كثيراً منها شيعي بطبيعة الحال، وقد مر عليك كلام الشيخ المامقاني والسيد الخوئي قريباً. وقد أورد العلامة الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي قائمة بمراجع الرجال أورد فيها 30 مرجعاً مطبوعاً في كتابه أصول البحث([16]).
وهي بعض ما طبع من مراجع هذا العلم، ولا زالت العناية قائمة بالكتابة في هذا العلم الجليل وسنتبين ذلك قريباً إن شاء الله تعالى.
الفصل الأول: باعث علم الرجال
1) إحياؤه لعلم الرجال.
2) الحركة المباركة التي أحدثها فيه.
يبدع البعض فيما يعشقون ويهيمون بحبه من العلوم، ويتجلى ذلك منهم في مظاهر، فمنهم من يسعى للإحاطة بأسرار ما يهوى والغوص في أعماقه والوقوف على أطرافه وأكنافه دون أن يكتب حرفاً أو ينبس ببنت شفة.
ومنهم الكريم في بحثه الفياض كلمه فإذا ما عرَّج على مسألة ترتبط بما يجنح إليه دائماً تراه واسع العطاء ولكنه لا يكاد يضع حرفاً أو نقطة على حرف.
وآخرون يتفاعلون دائماً مع ميلهم وشغفهم بكلهم بفكرهم ولسانهم وبنانهم.
(وعلم الرجال) تعلق به كثيرون وأبرزوا انجذابهم نحوه في صور ومظاهر، وقد أدرك البعض منهم بغيته ومنهم من فاته مأموله.
ولنقرأ نماذج عن هؤلاء:
1) فالرجالي الكبير الفقيه الشيخ سليمان بن عبدالله الماحوزي _ استفاض النقل عنه بقوله: إني أعرف رجال الحديث والرواة أعظم من معرفتي لأهل ماحوز -يعني أهل بلاده([17]).
2) والزعيم العظيم السيد آغا حسين البروجردي:
((وقد ألف في هذا الفن كتباً لها قيمتها كما أنه يعد اليوم من أعلام هذا الفن والمتبحرين فيه وفي معرفة طبقات المحدثين والرواة وتراجم أحوالهم))([18]).
وعدد الشيخ المحقق الطهراني مؤلفاته الرجالية وأشاد بأهميتها وفصل القول في ذلك العلامة المتتبع الشيخ جعفر السبحاني فيما كتبه ونقله عن الأستاذ واعظ زاده([19]).
وسمعت من مشايخي عن مشايخهم أنه -أعلى الله مقامه- كان محيطاً بهذا العلم متضلعاً فيه وحكوا عنه ما حكينا عن الشيخ الماحوزي -أعلى الله برهانه.
1) إحياء الخوئي لهذا العلم:
فإنه P قد أولى هذا العلم عناية فائقة وأبلى في ذلك البلاء الحسن الجميل ووفق في ذلك غاية التوفيق فهو _ وإن شاركه أفذاذ آخرون في الاهتمام بهذا العلم، إلا أنه بزهم بما ألف ونشر وأحيا وأثار الهمم وحرك العزائم فانبعثت الألسن تنطق والأقلام تخط فغدا هذا العلم محل النظر والبحث والشيوع والذيوع وهذه بركة من بركاته ولا سيما إذا استند الدعم والإشادة من الأستاذ الأول والزعيم الأمثل وممن لم يقنع بالتوجيه والإرشاد بل خاض الغمار وأجرى سوابق جياده في المضمار فعاد سابقاً مجلِّيًا، ومن مشاهد ذلك وشواهده نقف على الآثار الطيبة المباركة التي كان شجرتها المعطاءة وكان فروعها نخبةً من طلابه (سَبُوحٌ لها منها عليها شواهدُ).
ومن مظاهر ذلك:
أ) ((وقد ضعف الاهتمام به إلى حد كبير وأضحى طلاب الشريعة لا يرجعون إليه إلا قليلاً، ما دفعني إلى تركيزه واعتباره في صميم الدراسة العملية، مؤكداً ذلك في العناية بتنقيحه، وتحقيق أحواله ورجاله، وغربلة قواعده وأحكامه، وقد أحدث ذلك -ولله الحمد- أثراً عظيماً في اتجاه الحوزة العلمية فحفز غير واحد من فضلائها إلى النهوض بدراسته والأخذ به شأن غيره من مدارك الاجتهاد وأركانه))([20]).
ب) وأهاب وحث على ذلك في مقدمة أخرى مماثلة لمقدمته الآنفة الذكر([21]).
ج- وقال _: ((لأجل ذلك عزمت على تأليف كتاب جامع كافٍ بمزايا هذا العلم، وطلبت من الله سبحانه أن يوفقني لذلك، فاستجاب بفضله دعوتي ووفقني، وله الحمد والشكر لإتمامه كما أردت -على ما أنا عليه من كبر السن- وضعف الحال، وكثرة الأشغال.
ولولا توفيق المولى وتأييده جلَّ شأنه لم يتيسر لي ذلك))([22]).
د- ومن التطوير الذي أحدثه آية الله العظمى السيد الخوئي في الحوزة العلمية في النجف الأشرف إحياء وترويج علم التفسير والرجال، فرغم وجود محاولات لبعض العلماء في الكتابة عن التفسير والاهتمام به، ولكنه لم يكن ليعد ضمن العلوم المتداولة في الحوزات، ولقد مرت فترة على النجف لم يكن يدرس فيها غير الفقه والأصول.
أما الإمام الخوئي فقد أحيا هذين العلمين بتدريسه إياهما والتأليف فيهما، ولذلك أعطاهما قيمة حقيقية ووجه أنظار الفضلاء والباحثين نحوهما([23]).
هـ- تأليفه المعجم:
(والكتاب من حسنات الدهر)([24]).
والحديث عن الكتاب وكشف مميزاته ونهجه يحتاج إلى بحث مستقل ومستفيض وقد ذكر مؤلفه -طيب الله ثراه- حديثاً عنه في مقدمته، وكذلك السيد الحكمي -صهر الإمام المؤلف في مقدمة الكتاب([25])، والشيخ السبحاني فيما أوجزه من حديثه عن الكتاب.
وسأورد هنا بعض الخصائص والمميزات:
1) تأسيس المبنى العلمي.
2) الإتقان والضبط في إيراد المصادر والاعتماد عليها مباشرة أو بالواسطة مع ملاحظة اختلاف النسخ واحتمال التصحيف والتحريف.
3) تطبيق المقاييس دائماً وعدم إغفالها كما يتجلى ذلك في توثيق الرواة والموازنة بين الروايات القادحة والمادحة.
4) ممارسة هذا العلم في كل ما يمت بصلة معه فنلاحظه في الفقه لا يكاد يغفل أمر الرجال بحال وكذلك في الأصول بالإضافة إلى ربطه الحلقات الرجالية بعضها ببعض -كما مرت الإشارة إلى ذلك قريباً- ويعني ذلك التدليل على تغلغل هذا العلم وشدة ترابطه مع العلوم الأخرى.
5) الجوانب الأخرى المهمة علميًّا وفنيًّا حيث السعة والشمول والسبر والجهد المضني في تفصيل طبقات الرواة ومواطن رواياتهم -ولذلك عظيم الأثر وجليل الخطر- مقروناً بالأسلوب الفخم والعبارة المشرقة وحسن الترتيب وجودة السبك والتنظيم، إلى جوانب أخرى يقف عليها المتتبع المتأمل، وحقًّا إنه: من حسنات الدهر.
2) الحركة المباركة التي أحدثها فيه:
إن عديداً من العلوم التي برع فيها الإمام المؤلف قد ترك فيها أثراً بارزاً من الإبداع والتطوير، وقد ترك -إلى جانب ذلك- عديداً من الرجال الذين يتدارسونها ويحملون رسالتها العلمية عبر الأجيال.
وعلم الرجال أحد العلوم الإسلامية التي حررها ومحص أصولها وبعثها -في الحوزة العلمية- بعثاً جديداً أظهر عمقها وأصالتها.
وإن القيام بإحصاء دقيق يحتاج استقصاء ومعايشة عن قرب للوقوف على مدى التأثير والانفعال بآراء هذا الباعث المحيي.
وكما أسلفت لعل أمة كبيرة من أعيان طلابه وخريجي حوزته يغرقون نزعاً في هذا المجال ضمن بحوثهم الفقهية أو غيرها كلَّما عنت مسألة تدعو إلى ذلك ودونما تسجيل وتقييد في حاشية أو كتاب، ولعل آخرين دونوا ولم تزل جواهرهم مصونة، وقد سبقت الإشارة فيما نقلته من كلام من اهتمام غير واحد من الفضلاء إلى النهوض بدراسته والأخذ به، وسأورد أسماء من قرأت لهم أو سمعت عنهم من الرواة الثقات.
1) السيد محيي الدين الغريفي.
وقد كتب (قواعد الحديث) وقدم له أستاذه الخوئي، وقد أورد فيه آراء أستاذه في موضوعات مختلفة وعرض لمناقشة بعضها.
2) السيد آقا حسن الأصفهاني.
ورأيت الجزء الأول من كتابه (ثقاة الرواة) بتقديم أستاذه أيضاً.
3) الشيخ ميرزا غلام رضا عرفانيان.
وهو ممن استفاد من أستاذه الخوئي في علم الرجال كما جاء ذلك في ترجمته بقلمه ((وضمناً في أوائل هذه الآوان مارست على يده المطالب الرجالية برهة من الزمان))([26])، وله عدة كتب وتعاليق في هذا العلم ومن جملتها (تعاليق على بعض الأقوال من معجم الرجال)، وقد طبع له (الثقاة في أسانيد كتاب كامل الزيارات) ومشايخ الثقاة، الحلقة الأولى([27]).
4) الشيخ محمد آصف المحسني.
فقد عرض في كتابه (بحوث في علم الرجال)([28]) جملة من آراء أستاذه وناقشه في كثير منها.
5) السيد علي السيستاني.
وهو من أعيان حوزته وأجلاء خريجي مدرسته وقد سمعت أن له اهتماماً وتحقيقات رجالية([29]).
6) الشيخ حسين الوحيد الخراساني.
وهو من أعيان حوزته وأساتذة البحث الخارج ذوي الإقبال في حوزة قم المقدسة، وسمعت أيضاً عن تعلقه بعلم الرجال وإفاضته المقال فيه إذا انجر البحث إليه.
7) الشيح محمد تقي الأيرواني.
ونُقل اهتمامه بهذا العلم وينسب إليه التنبيه الباعث للاستدراك الذي كتبه أستاذه الخوئي على وثاقة رجال كامل الزيارات، وقد نسب ذلك التنبيه إلى غيره. وقد سمعت أن ذلك هو الشيخ مسلم الداوري.
8) السيد محمد رضا بن السيد حسن الخرسان.
وقد أخذ عن أبيه الفقيه كما أخذ عن أستاذه، وقد جاء في ترجمته أن من مؤلفاته: (مع معجم رجال الحديث للسيد الخوئي)([30]).
9) الشيخ عبدالهادي الفضلي.
وهو من طلابه ويعد الآن كتاباً عن علم الرجال ليكون المقرر الدراسي في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، التي أشير إليها آنفاً.
وليس هذا فقط مما في الأرقام فقد ذكر آخرون كالشيخ السبحاني ومؤلفه (كليات في علم الرجال) والسيد محمد علي الأبطحي وله نشاط بارز في هذا العلم، والشيخ مسلم الداوري وسمعت أنه من فضلاء المدرسين في هذا العلم وله من التحقيقات والتعليقات على آراء أستاذه الخوئي الكثير النافع([31]).
وكما أسلفت لعل الكثير لم ينشر شيئاً أو لم يشتهر، والمهم أنه -أعلى الله مقامه- فتح الباب وشق الطريق ومهد السبيل وبلغ الغاية إلى جعل اعتماد هذا العلم في عداد مقررات ومناهج الدراسة في الحوزات العلمية أو الدراسات الجامعية.
الفصل الثاني: إحكام المباني
النقطة الأولى: وقد أولاه P عناية فائقة واهتماماً بالغاً في مدخل كتابه ومفتتح أبوابه فجاءت جامعة لكل ما له دخل في هذا العلم متمثلة فيما نوجزه:
1) ضرورة الرجوع إلى علم الرجال.
2) تفنيد القول بقطعية صدور روايات الكتب الأربعة.
3) ضرورة تصنيف الأحاديث وتمحيصها.
4) المعايير العلمية للوثاقة والحسن.
5) التوثيق الضمني ومساواته للتوثيق المطابقي ومناقشته لبعض التوثيقات الجماعية.
6) مناشئ التوثيقات العامة ومناقشتها.
7) دراسة صحة روايات الكتب الأربعة ولزوم النظر في أسانيدها وفحصها.
8) دراسة الأصول الرجالية المعتمدة والحكم على بعضها بالوضع والاختلاق.
وقد جلاّها بقلمه السيال وفكره الجوَّال وشجاعته العلمية المعهودة وحسن الترتيب والتبويب والوصول إلى النتائج عبر المقدمات المدروسة بحكمة وإتقان والتي يخرج بالتالي منها بالرأي القاطع -فيما يختار- غير مكترث بمخالفة آراء الأساطين والأساتذة ودعوى الإجماع والشهرة.
النقطة الثانية: حول بعض آرائه:
وإن تسليط الضوء على آرائه الرجالية الموردة في المدخل أو في كتابه الكبير، يحتاج إلى جهد ضخم وقدرات لا أملكها ولكني أوجز الحديث عن جهتين فقط في خاتمة هذا البحث.
الجهة الأولى: توثيقات المتقدمين فقط:
فقد قرر -رضوان الله عليه- في نص (أحد الأعلام المتقدمين) وفي (نص أحد الأعلام المتأخرين) أن التوثيق من هذه الجهة يعتمد على أمور:
الأول: نص مثل البرقي وابن قولويه والكشي ونظائرهم من المتقدمين.
الثاني: أن ينص على ذلك أحد الأعلام المتأخرين بشرط أن يكون من أخبر عن وثاقته معاصراً للمخبر أو قريب العصر منه.
الثالث: أن لا يكون ذلك عن حدس بل عن حس ويكفي في الأول عدم العلم بصدوره عن الحدس وإن كان محتملاً ويجب في الثاني إحراز كونه عن حس([32]).
وحاول السيد الغريفي _ تصحيح توثيقات المتأخرين باحتمال وجود الطريق الحسي المعتبر فيها، واستعان بكلام الشهيد الثاني P فقال: إذ كم استدرك المتأخرون على القدماء أموراً فاتتهم ولذا قال الشهيد الثاني: ((ولكن ينبغي للمائز في هذه الصناعة تدبر ما ذكروه ومراعاة ما قرروه فلعله يظفر بكثير مما أهملوه ويطلع على توجيه في القدح والمدح أغفلوه كما اطلعنا عليه كثيراً ونبهنا عليه في مواضع كثيرة وضعناها على كتب القوم...الخ))([33]).
وأقول أولاً: تعود المسألة إلى كفاية احتمال وجود الطريق الحسي بعد الاعتراف باشتراطه.
وثانياً: استدراك المتأخر على المتقدم لا ينكر، وقد قيل: كم ترك الأول للآخر، ولكن هذا أجنبي عن المقام فالاستدراك يعني الوقوف على الحقيقة جلية وتحديد الموقف وفق ذلك، وكلام الشهيد الثاني من هذا الباب ولا يصلح دليلاً لما رمى إليه المستشهد بكلامه، وكذلك فيما أضافه من نقله كلام السيد بحر العلوم.
وقد عالج المسألة آخرون كالشيخ السبحاني([34]) والمحسني([35])،ويلاحظ في محاولة تصحيح الأخذ بأقوال المتأخرين تحديداً أنها من باب الشهادة أو قول أهل الخبرة، وهل الحجة من الخبر هو الموثوق بصدوره أم خصوص أهل الثقة، وأخيراً الاستعانة بسيرة العقلاء فإنها تقوي جهة الوثوق بالصدور وإن لم تحرز وثاقة المخبر، ومدى الاستفادة من آية النبأ، وبالتالي فلاختلاف المبنى أثره في الاختيار.
نعم قد أشكل السيد الغريفي على أستاذه بأن توثيقات المتقدمين لأصحاب النبي وأمير المؤمنين -عليهما وآلهما السلام- من هذا الباب، فلو كان فصل الزمن الطويل مانعاً من قبول التوثيق لضعف احتمال الحس فكيف تقبل تلك التوثيقات؟
وقد سبق أن السيد -رضوان الله عليه- يرى أن احتمال الحس موجود وجداناً وأن الحدس لا يعتنى به بعد قيام السيرة على حجية خبر الثقة فيما لم يعلم أنه نشأ عن الحدس، إضافة إلى التفريق بين فترة ما بعد الشيخ الطوسي وما قبله حيث انقطعت السلسلة بعده فأصبح عامة الناس إلا قليلاً منهم مقلدين...الخ.
الجهة الثانية: التوثيق الضمني:
((فإن العبرة إنما هي بالشهادة بالوثاقة، سواء أكانت الدلالة مطابقية أم تضمنية ولذا نحكم بوثاقة جميع مشايخ علي بن إبراهيم الذين روى عنهم في تفسيره مع انتهاء السند إلى أحد المعصومين...الخ))([36]).
وأوجز الحديث هنا عبر نقاط:
الأولى: يجب أولاً توثيق نسبة الكتب لأربابها، ويبدو من السيد _ نسبة التفسير لمؤلفه الجليل علي بن إبراهيم وإلا فإن المعهود من نهجه -أعلا الله برهانه- العناية بالطريق إلى الكتاب والأصل والراوي...الخ، وهو ما يلاحظ في نقاشه حول كتاب المشهدي وغيره.
الثانية: يبدو أن أسلوب التعبيرات المنقولة عن الشيخ القمي وابن قولويه من سنخ التعبيرات من غيرهما، وأن الجميع لا يريدون توثيق كل من جاء في سلسلة السند وبالتالي فهي شهادة بالتوثيق مقبولة حتى ينظر في معارضها ويوازن بينهما.
الثالثة: ولعل الأصوب -كما حقق ذلك بعض الأجلاء في دراستهم لهذه الجهة- استفراغ الوسع في دراسة تراجم رجال السلسلة فيرى بعد ذلك ظهور كلمات التوثيق في مداليلها ومعانيها فيركن إليها أم أنها على غرار كلمات الشيخ الصدوق ونظائره ممن ركن البعض إلى ظهور كلماتهم في توثيق رجال رواياتهم بل وارتقوا أبعد مرتقى حيث وثقوا الآلاف.
الرابعة: جريه الدائم على وفق ما بنى وأسس ولا يكاد يغفل -كما أشرت سابقاً- مرتكزاً في دراسة راوي أو علاج رواية وهذا مما يحكي الوثوق بما وصل إليه من نتائج.
فتراه يلاحظ الطريق إلى الكتاب وسلامته وحال الراوي واستقامته عبر ما قرره وقبله من طرق التوثيق مراعياً كل المقاييس التي بحثها وناقشها وخلص إلى رأي فيها([37]).
وخذ لذلك مثلاً، يتجلى فيه إعمال الثوابت من القواعد المحررة لديه:
(توثيق عمر بن حنظلة) فضعفه وناقش حتى تلقّى الفحول لمقولته بالقبول وإن رواية يزيد في توثيقه في مسألة الوقت لا تعني شيئاً فهو توثيق الضعيف بمثله فعمر ويزيد كلاهما غير ثقتين إلى آخر ما حلل وعلل ونقض وأبرم([38]).
هذا وقد وصفها بعضهم بالصحيحة، وقد وقع في إسناد كثير من الروايات تبلغ سبعين مورداً، وقد أفاد الأستاذ الشيخ -دامت بركاته-: أن المتتبع لتلكم الروايات الكثيرة البالغة سبعين مورداً في مختلف أبواب الفقه وتعويلهم عليها يطمئن بوثاقته كتقبلهم للمقبولة المشهورة، ويبعد جدًّا قيام روايات معتبرة من غير طريقه في كل ما رواه هو فيكون المعول على رواية غيره أما هو فمؤيد فقط.
وبعد فقد عادت البحوث المطروحة مورداً للأفكار والأقلام تردها وتصدر عنها بالعطاء الموفور، ومثارًا للثراء العلمي في هذا المضمار.
والحق أن هذا مكسب عظيم حيث فتح الأبواب وأنار الأذهان فتلج الأقلام عبر خطوط ممهدة فتختار منها مسلكاً موافقاً أو مخالفاً، وهو ما رأيناه في الكتب الرجالية المؤلفة بعد تبني سيدنا لهذا العلم وإحيائه له بالبحث والتأليف فيه، وفي التجارب وتلاقح الآراء علم مستأنف.
وتحكي من جانب آخر توفيقه العظيم في تربية العلماء وتخريجهم وصقل مواهبهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
([1]) سورة إبراهيم/24-25.
([2]) سورة البقرة/261.
([3]) تنقيح المقال ج1/177-178، المقدمة، ط قديم.
([4]) والشيخ سليمان من علماء القطيف، وله عدة مؤلفات، وكان نزيل مسقط، توفي سنة 1266هـ.
([5]) يعني الشيخ صاحب الحدائق (ت 1186هـ)، كما جاء في بيت سابق:
وقال شيخنا الفقيه في الدرر إن العلاج إن تعارض الخبر.
([6]) الأزهار الأرجية في الآثار الفرجية ج6/166-167.
([7]) معجم رجال الحديث ج1/22 و36.
([8]) معجم رجال الحديث ج1/22 و36 .
([9]) الظاهر أن صحيحها الشهرات.
([10]) أنوار الوسائل ج1/5.
([11]) تنقيح المقال في أحوال الرجال ج1/175.
([12]) معجم رجال الحديث ج1/11.
([13]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج10/80 و82.
([14]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج10/80 و82.
([15]) موسوعة العتبات المقدسة، قسم النجف ج2/275 والمولى علي من أجلاء العلماء والعباد والزهاد. (ن.م).
([16]) ص163 وهو مخطوط وقد أعد مقرراً في كلية الشريعة من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية.
([17]) معراج أهل الكمال للشيخ الماحوزي ص41 المقدمة.
([18]) نقباء البشر في القرن الرابع عشر ج2/606 و 608.
([19]) الرجال للشيخ السبحاني ص143.
([20]) مقدمة السيد الخوئي في (ثقاة الرواة) للسيد آقا حسن الأصفهاني أحد تلامذته.
([21]) تقديمه أعلا الله مقامه في (قواعد الحديث) للسيد محيي الدين الغريفي وهو أحد تلامذته أيضاً.
([22]) مقدمة معجم رجال الحديث/11.
([23]) النور (مجلة شهرية تصدر عن مؤسسة الإمام الخوئي في لندن).
([24]) كليات علم الرجال للشيخ السبحاني/146.
([25]) الطبعة الأولى للمعجم وهي مقدمة ضافية قيمة كشفت عن جوانب مهمة في الكتاب.
([26]) فضائل الأشهر الثلاثة لابن بابويه القمي، الخاتمة ص153 الخ.
([27]) فضائل الأشهر الثلاثة لابن بابويه القمي، الخاتمة ص153 الخ.
([28]) وكان اسمه في طبعته الأولى (فوائد رجالية).
([29]) وقد جاء في ترجمته في النور السنة الثانية العدد التاسع عشر ص17 الخ.
([30]) معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام ج2/489.
([31]) وهو اليوم -رعاه الله- أستاذ علم الرجال، وقد قرّر بحثه في ذلك المرحوم الأخ الشيخ محمد علي المعلم في كتاب (أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق)، وقد طبع مرتين، والثانية في جزءين، وللكتاب شهرة وذيوع في الحوزات العلمية.
([32]) معجم رجال الحديث ط1/55 و 56، بتلخيص وتصرف.
([33]) قواعد الحديث/191.
([34]) كليات علم الرجال/154.
([35]) بحوث في علم الرجال (الفائدة الثالثة) ص33 والرابعة ص45.
([36]) معجم رجال الحديث ج1/63.
([37]) ولا يعني ذلك بالطبع عدم تبدل الرأي فالحقيقة بنت البحث والكمال لواهبه، وقد صدر عنه -أعلى الله مقامه- (استدراك حول أسناد كامل الزيارات) هذا نصه:
ذكر ابن قولويه R في ديباجة كتابه (كامل الزيارات) ما لفظه: (وقد علمنا بأنا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم...).
والظاهر من هذه العبارة هو أنه لا يروي في كتابه رواية إلا عن المعصومين عليهم السلام، وقد وصلت إليه من طريق الثقات من أصحابنا.
ولا شبهة أن مقتضى الجمود على ظاهر العبارة ولا سيما بعد التعبير بصيغة الماضي في قوله (ولا أخرجت إلخ) الكاشف عن تحرير الديباجة بعد الفراغ عن التأليف، هو الإخبار عن وثاقة جميع من وقع في أسناد الكتاب حسبما أشرنا إليه في ص45 من الجزء الأول من كتابنا (معجم رجال الحديث) واعترف به صاحب الوسائل R.
ولكن: بعد ملاحظة روايات الكتاب، والتفتيش في أسانيدها ظهر اشتماله على جملة وافرة من الروايات -لعلها تربو على النصف- لا تنطبق عليها الأوصاف التي ذكرها R في المقدمة.
ففي الكتاب: الشيء الكثير من الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة والتي تنتهي إلى غير المعصوم u، والتي وقع في أسنادها من هو من غير أصحابنا، كما أنه يشتمل على الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال أصلاً، بل وجماعة مشهورين بالضعف كالحسن بن علي بن أبي عثمان ومحمد بن عبد الله بن مهران وأمية بن علي القيسي وغيرهم.
ومعلوم أن هذا كله لا ينسجم مع ما أخبر R به في الديباجة -لو كان مراده توثيق جميع من وقع في أسناد كتابه- من أنه لم يخرج فيه حديثًا روي عن الشذاذ من الرجال غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم.
فصوناً لكلامه R عن الإخبار بما لا واقع له لم يكن بد من حمل العبارة على خلاف ظاهرها بإرادة مشايخه خاصة.
وعلى هذا: فلا مناص من العدول عما بنينا عليه سابقاً، والالتزام باختصاص التوثيق بمشايخه بلا واسطة.
([38]) معجم رجال الحديث ج3/27